فصل: من فوائد ابن العربي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد ابن العربي في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فِيهَا تِسْعُ مَسَائِلَ:

.الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قواعد المعاملات في الآية الكريمة:

هَذِهِ الْآيَةُ، مِنْ قَوَاعِدِ الْمُعَامَلَاتِ، وَأَسَاسِ الْمُعَاوَضَاتِ يَنْبَنِي عَلَيْهَا، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: هَذِهِ الْآيَةُ، وقَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وَأَحَادِيثُ الْغَرَرِ، وَاعْتِبَارُ الْمَقَاصِدِ وَالْمَصَالِحِ، وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ.

.المسألة الثَّانِيَةُ: أكل أموال الناس بالباطل:

اعْلَمُوا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُتَعَلِّقُ كُلِّ مُؤَالِفٍ وَمُخَالِفٍ فِي كُلِّ حُكْمٍ يَدَّعُونَهُ لِأَنْفُسِهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ، فَيُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} فَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ لَهُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ بَاطِلٌ حَتَّى تُبَيِّنَهُ بِالدَّلِيلِ، وَحِينَئِذٍ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْعُمُومُ؛ فَهِيَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبَاطِلَ فِي الْمُعَامَلَاتِ لَا يَجُوزُ، وَلَيْسَ فِيهَا تَعْيِينُ الْبَاطِلِ.

.المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ}:

الْمَعْنَى: لَا يَأْكُلُ بَعْضُكُمْ مَالَ بَعْضٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ}: الْمَعْنَى: لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلْيُسَلِّمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ.
وَوَجْهُ هَذَا الِامْتِزَاجِ أَنَّ أَخَا الْمُسْلِمِ كَنَفْسِهِ فِي الْحُرْمَةِ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْأَثَرُ وَالنَّظَرُ؛ أَمَّا الْأَثَرُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إذَا اشْتَكَى عُضْوٌ مِنْهُ تَدَاعَى سَائِرُهُ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ».
وَأَمَّا النَّظَرُ فَلِأَنَّ رِقَّةَ الْجِنْسِيَّةَ تَقْتَضِيهِ وَشَفَقَةَ الْآدَمِيَّةِ تَسْتَدْعِيهِ.

.المسألة الرَّابِعَةُ قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا}:

مَعْنَاهُ: وَلَا تَأْخُذُوا وَلَا تَتَعَاطَوْا.
وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ أَخْذِ الْمَالِ التَّمَتُّعَ بِهِ فِي شَهْوَتَيْ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا} فَخَصَّ شَهْوَةَ الْبَطْنِ؛ لِأَنَّهَا الْأُولَى الْمُثِيرَةُ لِشَهْوَةِ الْفَرْجِ.

.المسألة الْخَامِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {بِالْبَاطِلِ}:

يَعْنِي: بِمَا لَا يَحِلُّ شَرْعًا وَلَا يُفِيدُ مَقْصُودًا؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ نَهَى عَنْهُ، وَمَنَعَ مِنْهُ، وَحَرَّمَ تَعَاطِيَهُ، كَالرِّبَا وَالْغَرَرِ وَنَحْوِهِمَا، وَالْبَاطِلُ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، فَفِي الْمَعْقُولِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَعْدُومِ، وَفِي الْمَشْرُوعِ عِبَارَةٌ عَمَّا لَا يُفِيدُ مَقْصُودًا.

.المسألة السَّادِسَةُ: قَوْله تَعَالَى: {وَتُدْلُوا بِهَا إلَى الْحُكَّامِ}:

أَيْ: تُورِدُونَ كَلَامَكُمْ فِيهَا: ضَرَبَ لِلْكَلَامِ الْمَوْرُودِ عَلَى السَّامِعِ مَثَلًا بِالدَّلْوِ الْمَوْرُودَةِ عَلَى الْمَاءِ، لِيَأْخُذَ الْمَاءَ وَحَقِيقَةُ اللَّفْظِ: وَتُدْلُوا كَلَامَكُمْ.
أَوْ يَكُونُ الْكَلَامِ مُمَثَّلًا بِالْحَبْلِ، وَالْمَالُ الْمَذْكُورُ مُمَثَّلًا بِالدَّلْوِ؛ لِتَقْطَعُوا قِطْعَةً مِنْ أَمْوَالِ غَيْرِكُمْ، وَذَلِكَ الْغَيْرُ هُوَ الْمُخَاصِمُ.
{بِالْإِثْمِ}: أَيْ مَقْرُونَةً بِالْإِثْمِ {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}: تَحْرِيمَ ذَلِكَ.

.المسألة السَّابِعَةُ: النهي المراد في الآية:

قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا النَّهْيُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّحْرِيمِ قَطْعًا غَيْرُ جَائِزٍ إجْمَاعًا، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ».

.المسألة الثَّامِنَةُ: مدار حكم الحاكم:

إذَا ثَبَتَ هَذَا فَإِنَّ مَدَارَ حُكْمِ الْحَاكِمِ هُوَ فِي الظَّاهِرِ عَلَى كَلَامِ الْخَصْمَيْنِ لَا حَظَّ لَهُ فِي الْبَاطِنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْلُغُهُ عِلْمُهُ، فَلَا يَنْفُذُ فِيهِ حُكْمُهُ؛ وَإِنَّمَا يَحْكُمُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ الظَّاهِرُ الْبَاطِنُ سُبْحَانَهُ وَهَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُصْطَفَى لِلِاطِّلَاعِ عَلَى الْغَيْبِ يَتَبَرَّأُ مِنْ الْبَاطِنِ، وَيَتَنَصَّلُ مِنْ تَعَدِّي حُكْمِهِ إلَيْهِ، فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ مِنْ الْخَلْقِ؟.

.المسألة التَّاسِعَةُ: الحكم بالظاهر:

هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَاكِمَ مُصِيبٌ فِي حُكْمِهِ فِي الظَّاهِرِ وَإِنْ أَخْطَأَ الصَّوَابَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْبَاطِنِ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: {وَتُدْلُوا بِهَا إلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا} بِحُكْمِهِمْ {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} بُطْلَانَ ذَلِكَ، وَالْحَاكِمُ فِي عَفْوِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ، وَالظَّالِمُ فِي سَخَطِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِقَابِهِ. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}.
رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُمَا فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَقَرِيبٌ رَبُّنَا فَنُنَاجِيهِ، أَمْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيهِ؟ فَسَكَتَ عَنْهُ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ الْآيَةَ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: سَأَلَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْنَ رَبُّنَا؟ فَنَزَلَتْ. وَرَوَوْا فِي سَبَبِهِ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ أَضْعَفُ سَنَدًا، وَأَقَلُّ نَاصِرًا وَعَدَدًا. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ عِنْدَ ذِكْرِ السَّبَبِ الْأَوَّلِ: هَذَا السُّؤَالُ لَيْسَ بِبَعِيدٍ مِنَ الْعَرَبِ أَوِ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ اعْتَادُوا أَنْ يَتَّخِذُوا وَسَائِلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ إِلَهِهِمْ يُقَرِّبُونَهُمْ إِلَى خَالِقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَهَؤُلَاءِ الْوَسَائِلُ وَالْوَسَائِطُ إِمَّا أَشْخَاصٌ وَإِمَّا أَمْثِلَةُ أَشْخَاصٍ كَالتَّمَاثِيلِ وَالْأَصْنَامِ، وَلَمْ يَهْتَدُوا بِأَنْفُسِهِمْ إِلَى التَّجَرُّدِ لِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ الْإِلَهِ الْوَاحِدِ الْعَظِيمِ بِأَنَّهُ لَا يَتَقَيَّدُ بِشَيْءٍ حَتَّى هَدَاهُمْ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ بِآيَاتِهِ الْبَيِّنَاتِ، فَكَانُوا أَهْلَ التَّوْحِيدِ الْخَالِصِ.
وَلَكِنَّ الْآيَةَ جَاءَتْ بَيْنَ آيَاتِ الصِّيَامِ، فَهِيَ لَيْسَتْ بِأَجْنَبِيَّةٍ مِنْهَا وَإِنَّمَا هِيَ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا مِنَ الْأَحْكَامِ، فَقَدْ طَالَبَنَا فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ بِإِكْمَالِ عِدَّةِ الصِّيَامِ وَبِتَكْبِيرِ اللهِ تَعَالَى، وَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ يُعِدُّنَا لِشُكْرِهِ تَعَالَى، وَالتَّكْبِيرُ وَالشُّكْرُ يَكُونَانِ بِالْقَوْلِ نَحْوَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَاللهُ أَكْبَرُ، كَمَا يَكُونَانِ بِالْعَمَلِ، وَمَا كَانَ بِالْقَوْلِ يَأْتِي فِيهِ السُّؤَالُ: هَلْ يَكُونُ بِرَفْعِ الصَّوْتِ وَالْمُنَادَاةِ، أَمْ بِالْمُخَافَتَةِ وَالْمُنَاجَاةِ! فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ جَوَابًا عَنْ هَذَا السُّؤَالِ الَّذِي يُتَوَقَّعُ إِنْ لَمْ يَقَعْ، فَهِيَ فِي مَحَلِّهَا سَوَاءٌ صَحَّ مَا رَوَوْهُ فِي سَبَبِهَا أَمْ لَا.
قَالَ: وَيُرْوَى فِي نُزُولِهَا سَبَبٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعَ الْمُسْلِمِينَ يَدْعُونَ اللهَ تَعَالَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ فَقَالَ لَهُمْ: «ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمًّا وَلَا غَائِبًا» وَعَلَى كُلِّ حَالٍ تُفِيدُنَا الْآيَةُ حُكْمًا شَرْعِيًّا وَهُوَ: أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي رَفْعُ الصَّوْتِ فِي عِبَادَةٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ إِلَّا بِالْمِقْدَارِ الَّذِي حَدَّدَهُ الشَّرْعُ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ، وَهُوَ أَنْ يَسْمَعَ مَنْ بِالْقُرْبِ مِنْهُ، وَمَنْ بَالَغَ فِي رَفْعِ صَوْتِهِ رُبَّمَا بَطُلَتْ صَلَاتُهُ، وَمَنْ تَعَمَّدَ الْمُبَالَغَةَ فِي الصِّيَاحِ فِي دُعَائِهِ أَوِ الصَّلَاةِ عَلَى نَبِيِّهِ كَانَ إِلَى عِبَادَةِ الشَّيْطَانِ أَقْرَبَ مِنْهُ إِلَى عِبَادَةِ الرَّحْمَنِ.
أَقُولُ: أَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ طُرُقٍ إِلَى أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَجَعَلَ النَّاسُ يَجْهَرُونَ بِالتَّكْبِيرِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمًّا وَلَا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا وَهُوَ مَعَكُمْ» وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ إِذَا عَلَوْا عَقَبَةً أَوْ ثَنِيَّةً. وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ ذِكْرُ الْآيَةِ وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ فِي الْمَقَامِ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَرْفَعُونَ أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ فَدَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الْحَدِيثُ مِنَ النَّهْيِ، فَكَانَ الْحَدِيثُ تَفْسِيرًا لَهَا بَلْ هُوَ عَمَلٌ بِهَا. وَذَكَرَهُ ابْنُ الْعَادِلِ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ أَسْبَابِ نُزُولِهَا.
قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} هَذَا الْتِفَاتٌ عَنْ خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ كَافَّةً بِأَحْكَامِ الصِّيَامِ، إِلَى خِطَابِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِأَنْ يُذَكِّرَهُمْ وَيُعَلِّمَهُمْ مَا يُرَاعُونَهُ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الطَّاعَةِ وَالْإِخْلَاصِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَحْدَهُ بِالدُّعَاءِ الَّذِي يُعِدُّهُمْ لِلْهُدَى وَالرَّشَادِ، وَجُعِلَتْ بِأُسْلُوبِ الْفَتْوَى عَلَى تَقْدِيرِ السُّؤَالِ لِتَنْبِيهِ الْأَذْهَانِ، وَالْمُرَادُ أَنْ يُؤْمِنُوا بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَرِيبٌ مِنْهُمْ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ حِجَابٌ وَلَا وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ يُبَلِّغُهُ دُعَاءَهُمْ وَعِبَادَتَهُمْ، أَوْ يُشَارِكُهُ فِي إِجَابَتِهِمْ أَوْ إِثَابَتِهِمْ، لِيَتَوَجَّهُوا إِلَيْهِ وَحْدَهُ حُنَفَاءَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.
وَقَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي وَجْهِ الِاتِّصَالِ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُمْ بِصَوْمِ الشَّهْرِ وَمُرَاعَاةِ الْعِدَّةِ، وَحَثَّهُمْ عَلَى الْقِيَامِ بِوَظَائِفِ التَّكْبِيرِ وَالشُّكْرِ، عَقَّبَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ خَبِيرٌ بِأَحْوَالِهِمْ، سَمِيعٌ لِأَقْوَالِهِمْ مُجِيبٌ لِدُعَائِهِمْ، مُجَازٍ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، تَأْكِيدًا لَهُ وَحَثًّا عَلَيْهِ. اهـ.
وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْأَحْكَامَ الْعَمَلِيَّةَ إِنَّمَا تُشْرَعُ لِتَقْوِيَةِ الْإِيمَانِ وَإِصْلَاحِ النَّفْسِ، وَلِذَلِكَ كَانَ مِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ أَنْ يُبَيِّنَ مَعَ كُلِّ حُكْمٍ حِكْمَةَ تَشْرِيعِهِ وَفَائِدَتَهِ فِي تَقْوِيَةِ الْإِيمَانِ، وَيَمْزُجُ الْكَلَامَ فِيهِ بِمَا يُذَكِّرُ بِعَظَمَةِ اللهِ تَعَالَى، وَيُعِينُ عَلَى مُرَاقَبَتِهِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَيُثْبِتُ الْإِيمَانَ بِهِ كَهَذِهِ الْآيَةِ. وَيَا لَيْتَ فُقَهَاءَنَا اقْتَدَوْا بِهَدْيِ الْقُرْآنِ فَلَمْ يَجْعَلُوا كُتُبَ الْأَحْكَامِ جَافَّةً مَقْصُورَةً عَلَى ذِكْرِ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ، كَأَنَّ الدِّينَ دِينٌ مَادِّيٌّ جُسْمَانِيٌّ لَا غَرَضَ لِلْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ فِيهِ.
وَأَمَّا مَعْنَى قُرْبِ اللهِ تَعَالَى فَقَدْ قَالُوا: إِنَّهُ الْقُرْبُ بِالْعِلْمِ، بِمَعْنَى أَنَّ عِلْمَهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، فَهُوَ يَسْمَعُ أَقْوَالَ الْعِبَادِ وَيَرَى أَعْمَالَهُمْ. وَعِبَارَةُ الْبَيْضَاوِيِّ: وَهُوَ تَمْثِيلٌ لِكَمَالِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَقْوَالِهِمْ، وَاطِّلَاعِهِ عَلَى أَحْوَالِهِمْ بِحَالِ مَنْ قَرُبَ مَكَانُهُ مِنْهُمْ. اهـ. وَإِنَّمَا جَعَلُوا الْكَلَامَ تَمْثِيلًا؛ لِأَنَّ الْقُرْبَ وَالْبُعْدَ الْحَقِيقِيَّ إِنَّمَا يَكُونَانِ بِاعْتِبَارِ الْمَكَانِ، وَهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ الِانْحِصَارِ فِي الْمَكَانِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ قُرْبِ الْوُجُودِ، فَإِنَّ الَّذِي لَا يَتَحَيَّزُ وَلَا يَتَحَدَّدُ تَكُونُ نِسَبُ الْأَمْكِنَةِ وَمَا فِيهَا إِلَيْهِ وَاحِدَةً، فَهُوَ تَعَالَى قَرِيبٌ بِذَاتِهِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، إِذْ مِنْهُ كُلُّ شَيْءٍ إِيجَادًا وَإِمْدَادًا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ. اهـ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مِنَ الْحَقَائِقِ الْعَالِيَةِ وَعَلَيْهِ السَّادَةُ الصُّوفِيَّةُ؛ فَقَدْ قَالَ أَحَدُ الْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِهِ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} [56: 85] أَيْ: إِذَا بَلَغَتْ رُوحُهُ الْحُلْقُومَ: إِنَّهُ الْقُرْبُ بِالْعِلْمِ، وَكَانَ أَحَدُ كِبَارِ الصُّوفِيَّةِ حَاضِرًا فَقَالَ: لَوْ كَانَ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ لَقَالَ تَعَالَى فِي تَتِمَّةِ الْآيَةِ: وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ. وَلَكِنَّهُ لَمْ يَنْفِ الْعِلْمَ عَنْهُمْ وَإِنَّمَا قَالَ: {وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} [56: 85] وَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْعِلْمِ أَنْ يُبْصَرَ فَيَنْفِي هُنَا إِبْصَارَهُ وَإِنَّمَا ذَلِكَ شَأْنُ الذَّاتِ. انْتَهَى بِالْمَعْنَى، وَهُوَ مَذْكُورٌ بِنَصِّهِ فِي كِتَابِ الْيَوَاقِيتِ وَالْجَوَاهِرِ لِلشَّعْرَانِيِّ. وَعَلَى كُلِّ حَالٍ لَازِمُ الْقُرْبِ مَقْصُودٌ، وَهُوَ عَدَمُ الْحَاجَةِ إِلَى رَفْعِ الصَّوْتِ وَلَا إِلَى الْوَاسِطَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ فِي الدُّعَاءِ وَطَلَبِ الْحَاجَاتِ كَمَا كَانَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ فِي التَّوَسُّلِ بِالشُّفَعَاءِ وَالْوُسَطَاءِ إِلَى اللهِ تَعَالَى، كَأَنَّهُ قَالَ: فَأَخْبِرْهُمْ بِأَنَّنِي قَرِيبٌ مِنْهُمْ وَأَنَّنِي أَقْرَبُ إِلَيْهِمْ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ أَيْ كَمَا فِي سُورَةِ ق.
هَذَا مَا كَتَبْتُهُ مِنَ التَّعْلِيقِ عَلَى كَلِمَةِ شَيْخِنَا فِي قُرْبِ الْوُجُودِ، وَطُبِعَ أَوَّلًا وَاطَّلَعَ هُوَ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَشْكَلَهُ بَعْضُ إِخْوَانِنَا السَّلَفِيِّينَ بِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ السَّلَفِ؛ فَإِنَّهُمْ يَتَأَوَّلُونَ أَوْ يُفَسِّرُونَ الْقُرْبَ بِالْعِلْمِ كَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَيَقُولُونَ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى فَوْقَ عِبَادِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ، وَعِبَارَةُ الْأُسْتَاذِ عَلَى إِجْمَالِهَا أَقْرَبُ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ مِنْ تَأْوِيلِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَمَنْ وَافَقَهُمْمن السَّلَفِيِّينَ؛ فَإِنَّ الْبَائِنَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ- الَّذِي لَا يَتَحَيَّزُ وَلَا يَتَحَدَّدُ- هُوَ الَّذِي تَكُونُ نِسْبَةُ جَمِيعِ الْأَمْكِنَةِ وَمَنْ فِيهَا إِلَيْهِ وَاحِدَةً، وَهِيَ الْبَيْنُونَةُ الْمُطْلَقَةُ الَّتِي يَقْتَضِيهَا الْعُلُوُّ الْمُطْلَقُ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ وَالْإِحَاطَةُ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَقُرْبُ الصِّفَاتِ لَا يُعْقَلُ بِدُونِ قُرْبِ الذَّاتِ؛ إِذْ لَا انْفِصَالَ بَيْنَهُمَا وَلَا انْفِكَاكَ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ إِمْرَارُ النُّصُوصِ فِي الصِّفَاتِ عَلَى ظَاهِرِهَا مِنْ غَيْرِ تَعْطِيلٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَلَا تَأْوِيلٍ. وَاللهُ تَعَالَى قَدْ أَسْنَدَ الْقُرْبَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَآيَتَيْ سُورَةِ الْوَاقِعَةِ وَسُورَةِ ق إِلَى ذَاتِهِ، فَنَأْخُذُ هَذَا الْإِسْنَادَ عَلَى ظَاهِرِهِ مَعَ إِثْبَاتِ تَنْزِيهِهِ عَنْ مُمَاثَلَةِ خَلْقِهِ، وَإِثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ لَهُ الَّتِي يُفْهَمُ بِهَا الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الْقُرْبِ فِي كُلِّ سِيَاقٍ بِحَسَبِهِ، وَالْجَامِعُ فِيهِ مَا ذَكَرَهُ الْأُسْتَاذُ مِنَ الْإِيجَادِ لِلْعِبَادِ وَالْإِمْدَادِ لَهُمْ فِي أَثْنَاءِ وُجُودِهِمْ وَمَصِيرِهِمْ إِلَيْهِ بَعْدَ انْتِهَاءِ آجَالِهِمْ، فَالْقُرْبُ فِي سُورَةِ ق يُنَاسِبُ الْإِيجَادَ وَالْإِمْدَادَ بِالْعِلْمِ وَالْحِفْظِ عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ قَوْلَهُ: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} [50: 17] مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [50: 16] وَالْقُرْبُ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ يُنَاسِبُ الْمَصِيرَ إِلَيْهِ تَعَالَى كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا بَعْدَهُ، وَقُرْبُهُ فِي الْآيَةِ الَّتِي نُفَسِّرُهَا يُنَاسِبُ الْإِمْدَادَ بِسَمْعِ الدُّعَاءِ وَإِجَابَتِهِ وَهِيَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَالْغَرَضُ مِنْهُ تَقْرِيرُ تَوْحِيدِ الْعِبَادَةِ كَمَا قَرَّرْنَاهُ آنِفًا، وَقَدْ بَيَّنَهُ بَيَانًا مُسْتَأْنَفًا بِقَوْلِهِ: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} مِنْهُمْ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ {إِذَا دَعَانِ} وَتَوَجَّهَ إِلَيَّ وَحْدِي فِي طَلَبِ حَاجَتِهِ؛ أَيْ: يَجِبُ أَنْ يُدْعَى وَحْدَهُ بِدُونِ وَاسِطَةٍ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَيَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ بِدُونِ وَاسِطَةٍ، وَهُوَ الَّذِي يُجِيبُ دَعْوَتَهُ وَحْدَهُ بِدُونِ وَاسِطَةٍ تُعِينُهُ أَوْ تُسَاعِدُهُ أَوْ تَنُوبُ عَنْهُ فِي الْإِجَابَةِ وَقَضَاءِ الْحَاجَةِ أَوْ تُؤَثِّرُ فِي إِرَادَتِهِ.
وَقَدْ فَسَّرُوا الدَّعْوَةَ بِطَلَبِ الْحَاجَاتِ وَقَالُوا: إِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ أَنَّ الْإِجَابَةَ وَصْفٌ لَازِمٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ يُجِيبُ كُلَّ دَاعٍ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَمَا هُوَ ثَابِتٌ بِالْمُشَاهَدَةِ. وَأَجَابُوا بِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ مِنْ شَأْنِهِ الْإِجَابَةَ فَهُوَ يُجِيبُ إِنْ شَاءَ كَمَا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} [6: 41] فَهُوَ عَلَى حَدِّ قَوْلِكَ: فُلَانٌ يُعْطِي الْكَثِيرَ فَاطْلُبْ مِنْهُ؛ أَيْ: إِنَّ مِنْ شَأْنِهِ ذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنْ يُعْطِيَ كُلَّ طَالِبٍ عَيْنَ مَا طَلَبَهُ. وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْإِجَابَةَ أَعَمُّ مِنْ إِعْطَاءِ السُّؤَالِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ الْإِجَابَةَ تَكُونُ بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ دَعْوَتَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا. وَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّأْوِيلِ إِذْ لَا مَحَلَّ لِلْإِشْكَالِ؛ فَإِنَّ الْآيَةَ سِيقَتْ لِبَيَانِ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَرِيبٌ مِنْ عِبَادِهِ الْمُتَوَجِّهِينَ إِلَيْهِ، فَلَا حَاجَةَ بِهِمْ إِلَى الصِّيَاحِ بِتَكْبِيرِهِ وَدُعَائِهِ، وَلَا إِلَى أَنْ يَتَّخِذُوا وُسَطَاءَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فِي التَّوَجُّهِ إِلَيْهِ وَسُؤَالِ رَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَصْمُدُوا إِلَيْهِ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُجِيبُ دُعَاءَهُمْ وَحْدَهُ.
أَقُولُ: وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ إِجَابَتِهِ إِيَّاهُمْ فَلَيْسَ مِنْ مَوْضُوعِ الْآيَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَارِفَ بِاللهِ تَعَالَى وَالْعَالِمَ بِشَرْعِهِ وَبِسُنَنِهِ فِي خَلْقِهِ لَا يَقْصِدُ بِدُعَائِهِ رَبَّهُ إِلَّا هِدَايَتَهُ إِلَى الطُّرُقِ وَالْأَسْبَابِ الَّتِي جَرَتْ سُنَّتُهُ تَعَالَى بِأَنْ تَحْصُلَ الرَّغَائِبُ بِهَا، وَتَوْفِيقُهُ وَمَعُونَتُهُ فِيهَا، فَهُوَ إِذَا سَأَلَ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَزِيدَ فِي عِلْمِهِ أَوْ فِي رِزْقِهِ فَلَا يَقْصِدُ أَنْ يَكُونَ الْعِلْمُ وَحْيًا يُوحَى، وَلَا أَنْ تُمْطِرَ لَهُ السَّمَاءُ ذَهَبًا وَفِضَّةً، وَكَذَلِكَ إِذَا سَأَلَ اللهَ شِفَاءَ مَرَضِهِ أَوْ مَرِيضِهِ الَّذِي أَعْيَاهُ عِلَاجُهُ فَإِنَّهُ لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَخْرِقَ اللهُ الْعَادَاتِ، أَوْ يَجْعَلَهُ مُؤَيَّدًا بِالْمُعْجِزَاتِ وَالْآيَاتِ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ الْمُؤْمِنُ الْعَارِفُ بِالدُّعَاءِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَوْفِيقِ اللهِ إِيَّاهُ إِلَى الْعِلَاجِ، أَوِ الْعَمَلِ الَّذِي يَكُونُ سَبَبَ الشِّفَاءِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ بِإِرْشَادِ مُرْشِدٍ أَوْ بِإِلْهَامٍ إِلَهِيٍّ، فَكَمْ مِنْ عِنَايَةٍ بِالْمُتَوَجِّهِينَ إِلَيْهِ، الدَّاعِينَ لَهُ بَعْدَمَا اجْتَهَدُوا فِي الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ فَلَمْ يُفْلِحُوا. وَمِنْ عِنَايَتِهِ الْهِدَايَةُ إِلَى سَبَبٍ جَدِيدٍ، وَإِلْهَامُ النَّفْسِ الْعَمَلَ الْمُفِيدَ، وَتَقْوِيَةُ الْمِزَاجِ عَلَى الْمَرَضِ، وَلَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ دُعَاءٍ يُجَابُ، بَلْ هِيَ نَفْسُهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجِيبُ الدُّعَاءَ إِلَّا اللهُ، فَيَجِبُ أَلَّا يُدْعَى سِوَاهُ {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا} [72: 18] فَعَسَى أَنْ يَهْتَدِيَ بِهَذَا الْمَوْسُومُونَ بِسِمَةِ الْإِيمَانِ، الَّذِينَ يَدْعُونَ عِنْدَ الضِّيقِ غَيْرَ الرَّحْمَنِ، وَيَتَوَجَّهُونَ إِلَى الْقُبُورِ: يَا فُلَانُ يَا فُلَانُ. وَيَتَأَوَّلُ لَهُمْ هَذَا الشِّرْكَ أَدْعِيَاءُ الْعِلْمِ وَالْعِرْفَانِ، بِأَنَّ الْكَرَامَاتِ ثَابِتَةٌ عِنْدَهُمْ لِلْأَمْوَاتِ كَالْأَحْيَاءِ، وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ لَهُمْ: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} [6: 41].
وَانْظُرْ كَيْفَ لَمْ يَقُلْ: إِنَّهُ يُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي حَتَّى قَيَّدَهَا بِقَوْلِهِ: {إِذَا دَعَانِ} قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ مَا مِثَالُهُ: إِنَّ الدَّاعِيَ شَخْصٌ يَطْلُبُ شَيْئًا، وَهُوَ يَصْدُقُ عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ كُلَّ يَوْمٍ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً، وَلَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُتَحَقِّقًا بِدُعَاءِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ كَمَا يَجِبُ أَنْ يُدْعَى، فَهُوَ يَقُولُ: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا خَصَّنِي بِالدُّعَاءِ وَالْتَجَأَ إِلَيَّ الْتِجَاءً حَقِيقِيًّا بِحَيْثُ ذَهَبَ عَنْ نَفْسِهِ إِلَيَّ، وَشَعَرَ قَلْبُهُ بِأَنَّهُ لَا مَلْجَأَ لَهُ إِلَّا إِلَيَّ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَطْمَعُ فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ، وَلَا يَطْلُبُ مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُطْلَبَ، وَإِنَّمَا يَمْتَثِلُ أَمْرَ اللهِ تَعَالَى بِاتِّخَاذِ جَمِيعِ الْوَسَائِلِ مِنْ طُرُقِهَا الصَّحِيحَةِ الْمَعْرُوفَةِ وَهِيَ لَا تَتَحَقَّقُ إِلَّا بِالْعِلْمِ وَالْعَزِيمَةِ وَالْعَمَلِ، فَإِنْ تَمَّ لِلْعَبْدِ مَا يُرِيدُ بِذَلِكَ فَقَدْ أَعْطَاهُ اللهُ تَعَالَى مِنْ خَزَائِنِهِ الَّتِي يُفِيضُ مِنْهَا عَلَى جَمِيعِ مُتَّبِعِي سُنَنَهِ فِي الْخَلْقِ، وَإِنْ بَذَلَ جُهْدَهُ وَلَمْ يَظْفَرْ بِسُؤْلِهِ فَمَا عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَلْجَأَ إِلَى مُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ وَهَادِي الْقُلُوبِ إِلَى مَا غَابَ عَنْهَا وَخَفِيَ عَلَيْهَا، وَيَطْلُبُ الْمَعُونَةَ وَالتَّوْفِيقَ مِمَّنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: إِنَّ مِثْلَ هَذَا يُجَابُ لَا مَحَالَةَ.
وَقَالَتِ الصُّوفِيَّةُ: الدُّعَاءُ الْمُجَابُ هُوَ الدُّعَاءُ بِلِسَانِ الِاسْتِعْدَادِ، وَقَدِ اسْتَعَاذَ النَّبِيُّ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- مِنَ الطَّمَعِ فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ، فَمَنْ يَتْرُكُ السَّعْيَ وَالْكَسْبَ وَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَلْفَ جُنَيْهٍ فَهُوَ غَيْرُ دَاعٍ، وَإِنَّمَا هُوَ جَاهِلٌ. وَمِثْلُ ذَلِكَ الْمَرِيضُ لَا يُرَاعِي الْحَمِيَّةَ وَلَا يَتَّخِذُ الدَّوَاءَ، وَيَقُولُ: رَبِّ اشْفِنِي وَعَافِنِي، كَأَنَّهُ يَقُولُ: اللهُمَّ أَبْطِلْ سُنَنَكَ الَّتِي قُلْتَ: إِنَّهَا لَا تُبَدَّلُ وَلَا تُحَوَّلُ لِأَجْلِي وَكَمِ اسْتَجَابَ اللهُ لَنَا مِنْ دُعَاءٍ، وَكَشَفَ عَنَّا مِنْ بَلَاءٍ، وَرَزَقَنَا مِنْ حَيْثُ لَا نَحْتَسِبُ وَلَا نَتَّخِذُ الْأَسْبَابَ، وَلَكِنْ بِتَسْخِيرِهِ هُوَ لِلْأَسْبَابِ.
سَأَلَ سَائِلٌ فِي الدَّرْسِ: إِذَا كَانَ الرِّزْقُ مُقَدَّرًا فَعَلَامَ السُّؤَالُ؟ فَقَالَ الْأُسْتَاذُ: إِذَا كَانَتْ إِجَابَتِي أَوْ عَدَمُهَا مُقَدَّرًا فَلِمَ السُّؤَالُ؟ هَذَا لَا يُقَالُ وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ مَا الْحِكْمَةُ فِي طَلَبِ الدُّعَاءِ مِنَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ كَحديث: «الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ» وَاللهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِنَا وَمَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ سَرَائِرُنَا؟ قَالَتِ الصُّوفِيَّةُ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالدُّعَاءِ فَزَعُ الْقَلْبِ إِلَى اللهِ وَشُعُورُهُ بِالْحَاجَةِ إِلَى مَعُونَتِهِ وَالْتِجَاؤُهُ إِلَيْهِ. وَيَحْتَجُّونَ بِمَا رُوِيَ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ- صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- من أَنَّ جِبْرِيلَ سَأَلَهُ قَبْلَ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ قَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا. قَالَ: فَادْعُ اللهَ. قَالَ: حَسْبِي مِنْ سُؤَالِي عِلْمُهُ بِحَالِي.
أَقُولُ: وَلَكِنَّ ظَاهِرَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ مَطْلُوبٌ بِالْقَوْلِ مَعَ التَّوَجُّهِ إِلَى اللهِ بِالْقَلْبِ، وَمِنْهُ الْأَدْعِيَةُ الْمَأْثُورَةُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ ذَلِكَ أَنَّ الدُّعَاءَ بِاللِّسَانِ هُوَ أَثَرُ الشُّعُورِ بِالْحَاجَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَفَزَعِ الْقَلْبِ إِلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَثَرُهُ فَهُوَ مُذَكِّرٌ بِهِ وَهُوَ أَعْظَمُ مَظَاهِرِ الْإِيمَانِ؛ وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخَّ الْعِبَادَةِ، فَهُوَ يُطْلَبُ لِذَلِكَ، وَإِجَابَةُ اللهِ الدُّعَاءَ تَقَبُّلُهُ مِمَّنْ أَخْلَصَ لَهُ وَفَزِعَ إِلَيْهِ بِرُوحِهِ وَرِضَاهُ عَنْهُ سَوَاءٌ أَوَصَلَ إِلَيْهِ مَا طَلَبَهُ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ أَمْ لَمْ يَصِلْ. وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ رضي الله عنه وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ وَمَتْنُهُ صَحِيحٌ فَهُوَ بِمَعْنَى حديث: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ» بِصِيغَةِ الْحَصْرِ وَهُوَ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرِدِ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
{فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي} قَالُوا: اسْتَجَابَ لَهُ وَاسْتَجَابَهُ وَأَجَابَهُ إِلَى الشَّيْءِ وَاحِدٌ وَهُوَ أَنْ يَفْعَلَ مَا دَعَاهُ إِلَيْهِ وَيُؤْتِيَهُ مَا طَلَبَهُ مِنْهُ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: الِاسْتِجَابَةُ قِيلَ هِيَ الْإِجَابَةُ، وَحَقِيقَتُهَا التَّحَرِّي لِلْجَوَابِ وَالتَّهَيُّؤِ لَهُ، لَكِنْ عَبَّرَ بِهِ عَنِ الْإِجَابَةِ لِقِلَّةِ انْفِكَاكِهَا مِنْهَا. اهـ.
وَأَوْرَدَ الشَّوَاهِدَ عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ وَمِنْهَا هَذِهِ الْآيَةُ. وَقَدْ ذَكَرْتُ فِي تَفْسِيرِ {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [8: 24] أَنَّ الْأَقْرَبَ إِلَى الْفَهْمِ مَا قَالَهُ الرَّاغِبُ وَعَكسَهُ، وَهُوَ أَنَّ الِاسْتِجَابَةَ هِيَ الْإِجَابَةُ بِعِنَايَةٍ وَاسْتِعْدَادٍ، فَتَكُونُ زِيَادَةُ السِّينِ وَالتَّاءِ لِلْمُبَالَغَةِ، وَهُوَ يَقْرُبُ مِمَّا قَالُوهُ فِي مَعَانِيهِمَا مِنَ التَّكَلُّفِ وَالتَّحَرِّي وَالطَّلَبِ أَوْ هُوَ بِعَيْنِهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُعَبَّرُ بِهِ فِيمَا يُسْنَدُ إِلَى اللهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} [3: 195] وَالْمَعْنَى: وَإِذْ كُنْتُ قَرِيبًا مِنْهُمْ مُجِيبًا لِدَعْوَةِ مَنْ دَعَانِي مِنْهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا هُمْ لِي بِتَحَرِّي مَا أَمَرْتُهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ لَهُمْ كَالصِّيَامِ وَغَيْرِهِ مِمَّا أَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، كَمَا أُجِيبُ دَعْوَتَهُمْ بِقَبُولِ عِبَادَتِهِمْ، وَتَوَلِّي إِعَانَتِهِمْ، فَالْآيَةُ تُفِيدُ أَنَّ الْمُنْفَرِدَ بِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ هُوَ الَّذِي يُطَاعُ طَاعَةَ الْعِبَادَةِ، فَإِذَا دَعَانَا غَيْرُهُ إِلَى عِبَادَةٍ اخْتَرَعَهَا بِاجْتِهَادِهِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا فِيمَا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَى نَبِيِّهِ لَا نُجِيبُهُ إِلَيْهَا، كَمَا أَنَّنَا لَا نَدْعُو غَيْرَهُ تَعَالَى.
وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ هُنَا: إِنَّهُ أَمَرَ بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَذَهَبَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ إِلَى أَنَّ الْخِطَابَ عَامٌّ وَأَنَّ حَظَّ مَنِ اسْتَجَابَ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ مِنْهُ أَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَهُ وَيُطَالِبَهَا بِأَنْ تَكُونَ أَعْمَالُهُ الظَّاهِرَةُ الَّتِي عُدَّ بِهَا مُسْلِمًا صَادِرَةً عَنِ الْإِيمَانِ الْيَقِينِيِّ وَالِاحْتِسَابِ وَالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَفِي ذِكْرِ الْإِيمَانِ بَعْدَ الِاسْتِجَابَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَسْتَجِيبُ إِلَى الْأَعْمَالِ وَيَقُومُ بِهَا وَهُوَ خُلْوٌ مَنْ رُوحِ الْإِيمَانِ {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [49: 14].
{لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} أَيْ: بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْإِيمَانِ وَالْإِذْعَانِ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَالرُّشْدُ وَالرَّشَادُ ضِدُّ الْغَيِّ وَالْفَسَادِ، فَعَلَّمَنَا أَنَّ الْأَعْمَالَ إِذَا لَمْ تَكُنْ صَادِرَةً بِرُوحِ الْإِيمَانِ لَا يُرْجَى أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهَا رَاشِدًا مَهْدِيًّا، فَمَنْ يَصُومُ اتِّبَاعًا لِلْعَادَةِ وَمُوَافَقَةً لِلْمُعَاشِرِينَ فَإِنَّ الصِّيَامَ لَا يَعُدُّهُ لِلتَّقْوَى وَلَا لِلرَّشَادِ، وَرُبَّمَا زَادَهُ فَسَادًا فِي الْأَخْلَاقِ وَضَرَاوَةً بِالشَّهَوَاتِ؛ لِذَلِكَ يُذَكِّرُنَا تَعَالَى فِي أَثْنَاءِ سَرْدِ الْأَحْكَامِ بِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ فِي إِصْلَاحِ النُّفُوسِ، وَإِنَّمَا نَفْعُ الْأَعْمَالِ فِي صُدُورِهَا عَنْهُ وَتَمْكِينِهَا إِيَّاهُ.
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.
بَعْدَ هَذَا عَادَ إِلَى سَرْدِ بَقِيَّةِ أَحْكَامِ الصِّيَامِ فَقَالَ: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} وَرُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا إِذَا أَفْطَرُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَتَغَشَّوْنَ النِّسَاءَ إِلَى وَقْتِ النَّوْمِ، فَإِذَا نَامَ أَحَدُهُمْ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ مِنَ اللَّيْلِ صَامَ وَلَوْ كَانَ فِي أَوَّلِ اللَّيْلِ، وَرُوِيَ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَانُوا يَصُومُونَ كَذَلِكَ، وَأَنَّ الصَّحَابَةَ فَهِمُوا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أَنَّ التَّشْبِيهَ يَتَنَاوَلُ كَيْفِيَّةَ الصَّوْمِ، فَوَقَعَ لِبَعْضِهِمْ أَنْ وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي اللَّيْلِ بَعْدَ النَّوْمِ فَشَكَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِبَعْضِهِمْ أَنْ نَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ ثُمَّ اسْتَيْقَظَ فَوَاصَلَ الصَّوْمَ إِلَى الْيَوْمِ الثَّانِي وَكَانَ عَامِلًا فَأَضْوَاهُ الْجُوعُ حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهِ، فَذُكِرَ خَبَرُهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا نَسْخَ هُنَا؛ فَإِنَّ التَّشْبِيهَ لَيْسَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْفَرْضِيَّةِ لَا فِي الْكَيْفِيَّةِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، مُتَمِّمَةٌ لِأَحْكَامِ الصَّوْمِ، مَبْنِيَّةٌ لِمَا امْتَازَ بِهِ صَوْمُنَا مِنَ الرُّخْصَةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ لِمَنْ قَبْلَنَا وَهَذَا مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ. وَقَالَ: إِذَا صَحَّ مَا وَرَدَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عِنْدَمَا فُرِضَ الصِّيَامُ كَانَ كُلُّ إِنْسَانٍ يَذْهَبُ فِي فَهْمِهِ مَذْهَبًا كَمَا يُؤَدِّيهِ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَيَرَاهُ أَحْوَطَ وَأَقْرَبَ إِلَى التَّقْوَى؛ وَلِذَلِكَ قَالُوا فِيمَا رَوَوْهُ مِنْ إِتْيَانِ عَمَرَ أَهْلَهُ بَعْدَ النَّوْمِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «لَمْ تَكُنْ حَقِيقًا بِذَلِكَ يَا عُمَرُ».
أَقُولُ: أَمَّا الرِّوَايَةُ الْأُولَى فَعِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ وَالْحَاكِمِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: كَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ وَيَأْتُونَ النِّسَاءَ مَا لَمْ يَنَامُوا فَإِذَا نَامُوا امْتَنَعُوا، ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ قَيْسُ بْنُ صِرْمَةَ- بِكَسْرِ الصَّادِ- صَلَّى الْعِشَاءَ ثُمَّ نَامَ فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى أَصْبَحَ فَأَصْبَحَ مَجْهُودًا، وَكَانَ عُمَرُ قَدْ أَصَابَ مِنَ النِّسَاءِ بَعْدَ مَا نَامَ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ؛ فَأَنْزَلَ اللهُ: {أُحِلَّ لَكُمْ} إِلَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} قَالَ فِي لِبَابِ النُّقُولِ: هَذَا الْحَدِيثُ مَشْهُورٌ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَكِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ مُعَاذٍ وَلَهُ شَوَاهِدُ، وَذَكَرَ حَدِيثَ قَيْسِ بْنِ صِرْمَةَ عَنِ الْبَرَاءِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ- وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا فِي الصَّوْمِ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي التَّفْسِيرِ- وَقَوْلُ الْبَرَاءِ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ: لَمَّا نَزَلَ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ كَانُوا لَا يَقْرَبُونَ النِّسَاءَ رَمَضَانَ كُلَّهُ فَكَانَ رِجَالٌ يَخُونُونَ أَنْفُسَهُمْ فَأَنْزَلَ اللهُ: {عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} الْآيَةُ. وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَهُوَ مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَ أَحْمَدَ وَابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ فِي رَمَضَانَ إِذَا صَامَ الرَّجُلُ فَأَمْسَى فَنَامَ حَرُمَ عَلَيْهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالنِّسَاءُ حَتَّى يُفْطِرَ مِنَ الْغَدِ، فَرَجَعَ عُمَرُ مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سَمَّرَ عِنْدَهُ فَأَرَادَ امْرَأَتَهُ فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ نِمْتُ. قَالَ: مَا نِمْتِ، وَوَقَعَ عَلَيْهَا، وَصَنَعَ كَعْبٌ مِثْلَ ذَلِكَ، فَغَدَا عُمَرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَنَزَلَتْ. اهـ.
فَأَنْتَ تَرَى فِي هَذِهِ الرِّوَايَاتِ اضْطِرَابًا، فَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَرَوْنَ مُقَارَبَةَ النِّسَاءِ مُحَرَّمَةً فِي لَيَالِي رَمَضَانَ كَأَنْهُرِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَفِي الْأُخْرَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُّونَهَا كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ لَا تَحْرُمُ إِلَّا بَعْدَ النَّوْمِ فِي اللَّيْلِ، وَأَقْرَبُ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ اخْتِلَافُ اجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ فِي ذَلِكَ بِحَمْلِ كُلِّ رِوَايَةٍ عَلَى طَائِفَةٍ، وَإِلَّا تَعَارَضَتَا وَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِمَا. وَهَذَا الْجَمْعُ يُوَافِقُ مَا قَالَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ اجْتِهَادَهُمْ لَمْ يَكُنْ حُكْمًا قُرْآنِيًّا فَيُقَالُ إِنَّهُ نُسِخَ بِالْآيَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ اجْتِهَادٌ أَوْقَعَهُمْ فِيهِ الْإِجْمَالُ فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِالْبَيَانِ قَالَ: وَقَوْلُهُ: {أُحِلَّ لَكُمْ} لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ مُحَرَّمًا، بَلْ يَكْفِي فِيهِ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ مِنْ كَمَالِ الصِّيَامِ أَوْ مِنْ شُرُوطِهِ عَدَمُ الْأَكْلِ بَعْدَ النَّوْمِ وَعَدَمُ مُقَارَبَةِ النِّسَاءِ بَعْدَهُ أَوْ مُطْلَقًا. وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [5: 96] وَلَمْ يَكُنْ قَدْ سَبَقَ نَصٌّ فِي تَحْرِيمِهِ.
وَأَقُولُ: إِنَّ إِقْرَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الِاجْتِهَادِ كَانَ جَرْيًا عَلَى سُنَّتِهِ فِي إِجَازَةِ عَمَلِ كُلِّ أَحَدٍ بِاجْتِهَادِهِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الِاجْتِهَادَ مِنَ النُّصُوصِ مِنْ غَيْرِ إِلْزَامٍ لِأَحَدٍ بِهِ، إِذْ لَمْ يَكُنْ يُلْزِمُ الْأُمَّةَ كُلَّهَا إِلَّا الْعَمَلَ بِالنَّصِّ الْقَطْعِيِّ الدَّلَالَةِ كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ.
أَمَّا لَيْلَةُ الصِّيَامِ فَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يُصْبِحُ مِنْهَا الْمَرْءُ صَائِمًا، وَأَمَّا الرَّفَثُ إِلَى النِّسَاءِ فَهُوَ الْإِفْضَاءُ إِلَيْهِنَّ وَمُبَاشَرَتُهُنَّ، وَأَصْلُهُ الْإِفْصَاحُ بِمَا يَنْبَغِي أَنْ يُكَنَّى عَنْهُ مِمَّا يَقَعُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ. يُقَالُ: رَفَثَ فِي كَلَامِهِ إِذَا فَحَشَ وَأَفْصَحَ بِذِكْرِ الْوِقَاعِ وَشُئُونِهِ أَوْ حَادَثَ النِّسَاءَ فِي ذَلِكَ وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الرَّفَثُ: كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِكُلِّ مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنَ الْمَرْأَةِ، وَحَقَّقَ الرَّاغِبُ أَنَّ الرَّفَثَ كَلَامٌ مُتَضَمِّنٌ لِمَا يُسْتَقْبَحُ مِنْ ذِكْرِ الْوِقَاعِ وَدَوَاعِيهِ، وَجُعِلَ كِنَايَةً عَنْهُ فِي الْآيَةِ تَنْبِيهًا عَلَى جَوَازِ دُعَائِهِنَّ إِلَى ذَلِكَ وَمُكَالَمَتِهِنّ فِيهِ. وَعُدِّيَ بإِلَى لِتَضَمُّنِهُ مَعْنَى الْإِفْضَاءِ، وَقَدْ عَلَّمَنَا الْقُرْآنُ النَّزَاهَةَ فِي التَّعْبِيرِ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الْكَلَامِ فِيهِ بِمَا ذَكَرَ مِنَ الْكِنَايَاتِ اللَّطِيفَةِ، كَقَوْلِهِ: {لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} و{أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} و{دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} و{فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ} وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: قَدْ ذَكَرَ هُنَا اللَّفْظَ الصَّرِيحَ وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ اسْتِهْجَانُ مَا وَقَعَ مِنْهُمْ، وَهَذَا غَلَطٌ؛ فَإِنَّ الْكَلِمَةَ بِمَعْنَى مَا لَا يَحْسُنُ التَّصْرِيحُ بِهِ مِنْ شَأْنِ الرَّجُلِ مَعَ الْمَرْأَةِ، وَلَيْسَتْ هِيَ مِنَ الْأَلْفَاظِ الصَّرِيحَةِ فِي ذَلِكَ، فَالْمَعْنَى أُحِلُّ لَكُمْ ذَلِكَ الْأَمْرُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي التَّصْرِيحُ بِهِ. وَإِنْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَالصَّوَابُ أَنَّهُ جِيءَ بِاللَّفْظِ عَلَى خِلَافِ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ سُنَّةُ الْكِتَابِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى اسْتِهْجَانِهِ فِي شَهْرِ الصَّوْمِ وَإِنْ حَلَّ فَهُوَ مِنَ الْحَلَالِ الْمَكْرُوهِ عَلَى الْجُمْلَةِ. وَقَوْلُهُ: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} قَوْلٌ مُسْتَأْنَفٌ سِيقَ لِبَيَانِ سَبَبِ الْحُكْمِ؛ أَيْ: إِذَا كَانَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُنَّ هَذِهِ الْمُلَابَسَةُ وَالْمُخَالَطَةُ، فَإِنَّ اجْتِنَابَهُنَّ عُسْرٌ عَلَيْكُمْ، فَلِهَذَا رَخَّصَ لَكُمْ فِي مُبَاشَرَتِهِنَّ لَيْلَةَ الصِّيَامِ. قَالَهُ صَاحِبُ الْكَشَّافِ، وَاخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ، فَهُوَ يَرَى أَنَّ لَفْظَ {لِبَاسٌ} هُنَا مَصْدَرٌ لَابَسَهُ بِمَعْنَى: خَالَطَهُ وَعَرَفَ دَخَائِلَهُ، لَا بِمَعْنَى مَا وَرَدَ مِنْ إِطْلَاقِ اللِّبَاسِ وَالْإِزَارِ عَلَى الْمَرْأَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ هُنَّ سَكَنَ لَكُمْ وَأَنْتُمْ سَكَنَ لَهُنَّ. وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُعَانَقَةِ، وَاسْتَشْهَدُوا لَهُ بُقُولِ الذُّبْيَانِيِّ:
إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى عِطْفَهَا ** تَثَنَّتْ عَلَيْهِ فَكَانَتْ لِبَاسًا

وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ كِنَايَةٌ عَنِ السَّتْرِ الْمَقْصُودِ مِنَ اللِّبَاسِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الزَّوْجَيْنِ سَتْرٌ لِلْآخَرِ وَإِحْصَانٌ لَهُ، وَهُوَ بِمَعْنَى الْغَشَيَانِ وَالتَّغَشِّي مِنْ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ عَنْ وَظِيفَةِ الزَّوْجِيَّةِ.
ثُمَّ قَالَ: {عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} أَيْ: تَنْتَقِصُونَهَا بَعْضَ مَا أَحَلَّ اللهُ لَهَا مِنَ اللَّذَّاتِ تَوَهُّمًا أَنَّ مَنْ قَبْلَكُمْ كَانَ كَذَلِكَ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى التَّخَوُّنِ أَيِ النَّقْصِ مِنَ الشَّيْءِ، أَوْ مَعْنَاهُ تَخُونُونَ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تَعْتَقِدُونَ شَيْئًا ثُمَّ لَا تَلْتَزِمُونَ الْعَمَلَ بِهِ فَهُوَ مُبَالَغَةٌ مِنَ الْخِيَانَةِ، الَّتِي هِيَ مُخَالَفَةُ مُقْتَضَى الْأَمَانَةِ، وَلَمْ يَقُلْ تَخْتَانُونَ اللهَ، كَمَا قَالَ: {لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [8: 72] لِلْإِشْعَارِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُحَرِّمْ عَلَيْهِمْ بَعْدَ النَّوْمِ فِي اللَّيْلِ مَا حَرَّمَهُ عَلَى الصَّائِمِ فِي النَّهَارِ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ بِهِمُ اجْتِهَادُهُمْ إِلَى ذَلِكَ فَهُمْ قَدْ خَانُوا أَنْفُسَهُمْ فِي اعْتِقَادِهَا، فَكَانُوا كَمَنْ يَتَغَشَّى امْرَأَتَهُ ظَانًّا أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ، فَعِصْيَانُهُ بِحَسَبِ اعْتِقَادِهِ لَا بِحَسَبِ الْوَاقِعِ، فَهُمْ عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانُوا عَاصِينَ بِمَا فَعَلُوا مُحْتَاجِينَ إِلَى التَّوْبَةِ وَالْعَفْوِ وَلِذَلِكَ قَالَ: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} فَإِنْ كَانَ ذَنْبُهُمْ تَحْرِيمَ مَا أَبَاحَ اللهُ لَهُمْ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ أَوِ التَّوَرُّعِ عَنْهُ لِيُوَافِقَ صِيَامُهُمْ صِيَامَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَتُفَسَّرُ التَّوْبَةُ بِالرُّجُوعِ عَلَيْهِمْ بِبَيَانِ الرُّخْصَةِ بَعْدَ ذِكْرِ فَرْضِ الصِّيَامِ مُجْمَلًا، وَالتَّشْبِيهُ فِيهِ مُبْهَمًا، وَيَكُونُ الْعَفْوُ عَنِ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ الَّذِي أَدَّى إِلَى التَّضْيِيقِ عَلَى النَّفْسِ وَإِيقَاعِهَا فِي الْحَرَجِ، وَإِنْ كَانَ الذَّنْبُ هُوَ مُخَالَفَةُ الِاعْتِقَادِ بِأَنْ كَانُوا فَهِمُوا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} تَحْرِيمُ مُلَامَسَةِ النِّسَاءِ لَيْلًا مُطْلَقًا أَوْ تَحْرِيمُهُ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بَعْدَ النَّوْمِ فِي اللَّيْلِ، فَالتَّوْبَةُ عَلَى ظَاهِرِ مَعْنَاهَا؛ أَيْ إِنَّ اللهَ قَبْلَ تَوْبَتِكُمْ، وَعَفَا عَنْ خِيَانَتِكُمْ أَنْفُسِكُمْ {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} الْمُبَاشِرَةُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْمُبَاضَعَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَحَقِيقَتُهَا: مَسُّ كُلٍّ بَشَرَةَ الْآخَرِ؛ أَيْ: ظَاهَرَ جِلْدِهِ، فَهِيَ كَالْمُلَامَسَةِ فِي حَقِيقَتِهَا وَكِنَايَتِهَا وَهِيَ مِنْ نَزَاهَةِ الْقُرْآنِ، وَالْمَعْنَى فَالْآنَ بَاشَرُوهُنَّ؛ إِذْ أُحِلَّ لَكُمُ الرَّفَثُ إِلَيْهِنَّ بِالنَّصِّ الصَّرِيحِ النَّافِي لِمَا فَهِمْتُمْ مِنَ الْإِجْمَالِ فِي كِتَابَةِ الصِّيَامِ عَلَيْكُمْ، فَالْأَمْرُ بِالْمُبَاشِرَةِ لِلْإِبَاحَةِ النَّاسِخَةِ أَوِ النَّافِيَةِ لِذَلِكَ الْحَظْرِ، فَهِيَ كَالْأَمْرِ بِالشَّيْءِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْهُ، وَاطْلُبُوا بِمُبَاشَرَتِهِنَّ مَا قَدَّرَهُ لِجِنْسِكُمْ فِي نِظَامِ الْفِطْرَةِ مِنْ جَعْلِ الْمُبَاشِرَةِ سَبَبًا لِلنَّسْلِ، أَوْ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ كَتَبَهُ لِكُلٍّ مِنْكُمْ بِأَنْ تَكُونَ مُبَاشَرَتُكُمْ بِقَصْدِ إِحْيَاءِ سُنَّةِ اللهِ تَعَالَى فِي الْخَلِيقَةِ، زَادَ بَعْضُهُمْ: لَا لِمَحْضِ شَهْوَةِ النَّفْسِ وَاللَّذَّةِ الَّتِي يُشَارِكُكُمْ فِيهَا الْبَهَائِمُ، وَهُوَ يُشْعِرُ أَنَّ التَّمَتُّعَ بِاللَّذَّةِ الزَّوْجِيَّةِ مَذْمُومٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ النَّسْلِ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ؛ فَإِنَّ الزَّوْجَيْنِ الْمَحْرُومَيْنِ مِنَ الْأَوْلَادِ أَوِ اللَّذَيْنِ رُزِقَا بَعْضَ الْأَوْلَادِ ثُمَّ انْقَطَعَ نِتَاجُهُمَا لَا يُذَمُّ وَلَا يُكْرَهُ لَهُمَا الِاسْتِمْتَاعُ بِالْمُبَاشَرَةِ الزَّوْجِيَّةِ بِغَيْرِ إِفْرَاطٍ، بَلْ هُوَ مَطْلُوبٌ لِإِحْصَانِ كُلٍّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ وَصَدِّهِ عَنِ الْحَرَامِ. وَلِمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْفُقَرَاءِ: «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ وِزْرٌ؟» قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: «فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ» وَالْحَدِيثُ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَقِيلَ: إِنَّ الْعِبَارَةَ تَتَضَمَّنُ النَّهْيَ عَنِ الْمُبَاشَرَةِ الْمُحَرَّمَةِ فَإِنَّهَا لَا يُقْصَدُ بِهَا الْوَلَدُ سَوَاءٌ كَانَتْ بِالزِّنَا أَوْ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} أَيْ: وَيُبَاحُ لَكُمُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ كَالْمُبَاشِرَةِ عَامَّةَ اللَّيْلِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ بَيَاضُ الْفَجْرِ، فَمَتَى تَبَيَّنَ وَجَبَ الصِّيَامُ. وَمَا أَحْسَنَ التَّعْبِيرَ عَنْ أَوَّلِ طُلُوعِ الْفَجْرِ بِالْخَيْطَيْنِ، وَالْخَيْطُ الْأَبْيَضُ هُوَ أَوَّلُ مَا يَبْدُو مِنَ الْفَجْرِ الصَّادِقِ، فَمَتَى أَسْفَرَ لَا يَظْهَرُ وَجْهٌ لِتَسْمِيَتِهِ خَيْطًا، فَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ بَعْضُ السَّلَفِ كَالْأَعْمَشِ مِنْ أَنَّ ابْتِدَاءَ الصَّوْمِ مِنْ وَقْتِ الْإِسْفَارِ تُنَافِيهِ عِبَارَةُ الْقُرْآنِ.
هَذَا مَا كَتَبْتُهُ أَوَّلًا وَهُوَ غَيْرُ دَقِيقٍ، وَسَأُفَصِّلُ الْمَسْأَلَةَ فِي الِاسْتِدْرَاكِ وَالْإِيضَاحِ الَّذِي تَرَاهُ بَعْدَ تَمَامِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي بَيَانِ آخَرِ اللَّيْلِ دُونَ الْمُبَاشَرَةِ- وَحُكْمُهَا- يُشْعِرُ بِكَرَاهَتِهَا فِي آخِرِ وَقْتِ الْإِبَاحَةِ الَّذِي تَتْلُوهُ صَلَاةُ الْفَجْرِ الْمَنْدُوبِ التَّغْلِيسُ بِهَا.
{ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فُهِمَ مِنْ غَايَةِ وَقْتِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ مَبْدَأُ الصِّيَامِ. وَذَكَرَ فِي هَذِهِ غَايَتَهُ وَهِيَ ابْتِدَاءُ اللَّيْلِ بِغُرُوبِ قُرْصِ الشَّمْسِ وَمَا يَلْزَمُهُ مِنْ ذَهَابِ شُعَاعِهَا عَنْ جُدْرَانِ الْبُيُوتِ وَالْمَآذِنِ، وَلَا يَلْزَمُ أَهْلَ الْأَغْوَارِ وَالْقِيعَانِ ذَهَابُ شُعَاعِهَا عَنْ شَنَاخِيبِ الْجِبَالِ الْعَالِيَةِ بَعِيدَةً كَانَتْ أَوْ قَرِيبَةً، وَإِنَّمَا الْعِبْرَةُ بِمَغِيبِ الشَّمْسِ فِي أُفُقِهِمُ الَّذِي يَتْلُوهُ إِقْبَالُ اللَّيْلِ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَدْبَرَ النَّهَارُ وَأَقْبَلَ اللَّيْلُ وَغَابَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَزَادَ فِيهِ الْبُخَارِيُّ «مِنْ هَاهُنَا» عِنْدَ ذِكْرِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْإِشَارَةِ إِلَى الْمَغْرِبِ وَالْمَشْرِقِ، وَلِلْمَبَانِي الْعَصْرِيَّةِ الشَّامِخَةِ فِي بِلَادِ أَمْرِيكَا حُكْمُهَا فِي ذَلِكَ.
وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ هَذَا التَّحْدِيدَ جَاءَ بِأُسْلُوبِ الْإِطْنَابِ؛ لِأَنَّهُ بَيَانٌ لِلْإِجْمَالِ بَعْدَ وُقُوعِ الْخَطَأِ فِيهِ، وَإِنَّمَا أَخَّرَ الْبَيَانَ إِلَى وَقْتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ لِيَكُونَ أَوْقَعَ فِي النَّفْسِ، وَأَظْهَرَ فِي رَحْمَةِ الشَّارِعِ الْحَكِيمِ {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ إِبَاحَةِ الْمُبَاشَرَةِ.
وَالْمَقَامُ مَقَامُ بَيَانٍ وَإِيضَاحٍ لَا يَبْقَى مَعَهُ لِلْإِبْهَامِ وَلَا لِلْإِيهَامِ مَجَالٌ؛ أَيْ: وَلَا تُبَاشِرُوا النِّسَاءَ حَالَ عُكُوفِكُمْ فِي الْمَسَاجِدِ لِلْعِبَادَةِ، فَالْمُبَاشَرَةُ تُبْطِلُ الِاعْتِكَافَ وَلَوْ لَيْلًا كَمَا تُبْطِلُ الصِّيَامَ نَهَارًا.
{تِلْكَ حُدُودُ اللهِ} الْإِشَارَةُ إِلَى الْأَحْكَامِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ كُلِّهَا، وَسُمِّيَتْ حُدُودًا؛ لِأَنَّهَا حَدَّدَتِ الْأَعْمَالَ وَبَيَّنَتْ أَطْرَافَهَا وَغَايَاتَهَا، حَتَّى إِذَا تَجَاوَزَهَا الْعَامِلُ خَرَجَ عَنْ حَدِّ الصِّحَّةِ وَكَانَ عَمَلُهُ بَاطِلًا- وَالْحَدُّ طَرَفُ الشَّيْءِ وَمَا يَفْصِلُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، وَحُدُودُ اللهِ مَحَارِمُهُ الْمُبَيَّنَةُ بِالنَّهْيِ عَنْهَا أَوْ بِتَحْدِيدِ الْحَلَالِ الْمُقَابِلِ لَهَا، وَقِيلَ: إِنَّهَا خَاصَّةٌ هُنَا بِمُبَاشَرَةِ النِّسَاءِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ أَوْ فِي حَالِ الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسَاجِدِ وَلَوْ لَيْلًا وَقَوْلُهُ: {فَلَا تَقْرَبُوهَا} هُوَ أَبْلَغُ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ قَوْلِهِ فِي آيَةٍ أُخْرَى: {فَلَا تَعْتَدُوهَا} [2: 229] لِأَنَّهُ يُرْشِدُ إِلَى الِاحْتِيَاطِ، فَمَنْ قَرُبَ مِنَ الْحَدِّ أَوْشَكَ أَنْ يَعْتَدِيَهُ، كَالشَّابِّ يُدَاعِبُ امْرَأَتَهُ فِي النَّهَارِ، يُوشِكُ أَلَّا يَمْلِكَ إِرَبَهُ فَيَقَعُ فِي الْمُبَاشَرَةِ الْمُحَرَّمَةِ أَوْ يَفْسُدُ صَوْمُهُ بِالْإِنْزَالِ، فَالْقُرْبُ مِنَ الْحَدِّ يَتَحَقَّقُ بِاسْتِبَاحَةِ أَقْصَى مَا دُونَهُ، كَالِاسْتِمْتَاعِ مِنَ الزَّوْجِ بِمَا دُونِ الْوِقَاعِ، وَكَالْمُبَالَغَةِ فِي الْمَضْمَضَةِ لِلصَّائِمِ، وَتَعَدِّيهِ يَتَحَقَّقُ بِالْوُقُوعِ فِيمَا بَعْدَهُ، فَالنَّهْيُ عَنِ الْأَوَّلِ يُفِيدُ كَرَاهَتَهُ وَشِدَّةَ تَحْرِيمِ مَا بَعْدَهُ، وَلَمْ يَنْهَنَا اللهُ فِي كِتَابِهِ عَنْ قُرْبِ حُدُودِهِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي الزِّنَا وَمَالِ الْيَتِيمِ، وَقَدْ تَعَدَّدَ فِيهِ الْوَعِيدُ عَلَى تَعَدِّيهَا، وَهَذَانِ مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ الَّتِي قَلَّمَا يَسْلَمُ مَنْ قَرُبَهَا مِنَ الْوُقُوعِ فِيهَا.
وَفِي مَعْنَى الْأَوَّلِ النَّهْيُ عَنْ قُرْبِ النِّسَاءِ فِي الصِّيَامِ وَالِاعْتِكَافِ، فَتَخْصِيصُ النَّهْيِ بِهَا ظَاهِرٌ، فَإِنَّ حُمِلَ عَلَى عُمُومِ أَحْكَامِ الصِّيَامِ كَانَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْإِمْسَاكِ الِاحْتِيَاطِيِّ قَبْلَ الْفَجْرِ وَبَعْدَ الْغُرُوبِ، وَلَكِنَّ هَذَا قَدْ يُعَارِضُ الْأَمْرَ بِتَعْجِيلِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ لَا تَقْرَبُوهَا بِالتَّأْوِيلِ وَالتَّحْرِيفِ وَلَا بِالْهَوَى وَالرَّأْيِ بَلِ اقْبَلُوهَا كَمَا هِيَ، وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى تَخْطِئَةِ أُولَئِكَ الصَّحَابَةِ بِمَا كَانَ مِنِ اجْتِهَادِهِمْ وَاتِّبَاعِ آرَاءِ أَنْفُسِهِمْ فِي أَمْرٍ دِينِيٍّ يَجِبُ فِيهِ الِاتِّبَاعُ الْمَحْضُ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَنْبَغِي لَكُمْ أَنْ تَتَجَاوَزُوا الْمَنْصُوصَ فِي الْعِبَادَاتِ لِأَنَّهَا مِمَّا لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ بَلْ عَلَيْكُمْ فِيهَا بِالِاتِّبَاعِ الْمَحْضِ، فَمَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَخُذُوا، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَذَرُوا، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى حديث: «إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَرَّمَ حُرُمَاتٍ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ- مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ- فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَالدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةٌ «رَحْمَةً بِكُمْ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ» فِي تَعْلِيلِ السُّكُوتِ {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أَيْ: عَلَى هَذَا النَّحْوِ مِنْ بَيَانِ أَحْكَامِ الصِّيَامِ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ وَعَزِيمَتِهِ وَرُخْصَتِهِ وَفَائِدَتِهِ وَحِكْمَتِهِ، يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ أَتَمَّ الْبَيَانِ وَأَكْمَلَهُ، لِيُعِدَّهُمْ لِلتَّقْوَى، وَالتَّبَاعُدِ عَنِ الْوَهْمِ وَالْهَوَى.